فصل: باب ذكر خلافة القائم بأمر الله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


 ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها‏:‏ أنه في ليلة الخميس ثالث محرم نقب قوم من اللصوص على دار المملكة فأفضوا إلى حجرة من حجر الحرم وأخذوا منها شيئًا من الثياب ونذر بهم فهربوا ورتب بعد ذلك حرس يطوفون حول الدار في كل ليلة‏.‏

وفي صفر‏:‏ عملت عملة في أصحاب الأكسية فأخذت أمتعة كثيرة وثار أهل الكرخ بالعيارين وطلبوهم فهربوا وأقام التجار على إغلاق دكاكينهم والمبيت في أسواقهم وراسلوا حاجب الحجاب وسألوه أن يندب إلى المعونة من يعاونونهم على إصلاح البلد فأعيد أبو محمد النسوي إلى العمل فوجدوا أحد العيارين فقتلوه ونهبت الدار التي استتر فيها ثم قوي العيارون وهرب ابن النسوي وعادت الفتن‏.‏

وفي يوم الثلاثاء خامس ربيع الأول‏:‏ صرف أبو الفضل محمد بن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان عن كتابة القادر بالله وكانت مدة نظره سبعة أشهر وعشرين يومًا وسبب ذلك أنه لما توفي والده أبو الحسن وأقيم مقامه لم يكن له دربة بالعمل‏.‏

وفي يوم الجمعة لثمان بقين من ربيع الأول‏:‏ تجددت الفتنة بين السنة والروافض واشتدت وكان سبب ذلك الخزلجي الصوفي الملقب بالمذكور أظهر العزم على الغزو واستأذن السلطان فكتب له منشور من دار الخلافة وأعطي منحوقًا واجتمع إليه لفيف كثير وقصد في هذا اليوم جامع المدينة للصلاة فيه وقراءة المنشور فاجتاز بباب الشعير وخرج منه إلى طاق الحراني وعلى رأسه المنحوق وبين يديه الرجال بالسلاح فصاح من بين يديه العوام بذكر أبي بكر وعمر وقالوا‏:‏ هذا يوم مغازي فنافرهم أهل الكرخ ورموهم وثارت الفتنة ومنعت الصلاة ونقبت دار المرتضى فخرج منها مرتاعًا منزعجًا فجاءه جيرانه من الأتراك فدافعوا عنه وعن حرمه وأحرقت إحدى سميريتيه ونهبت دور اليهود وخانتاراتهم وطلبوا لأنه قيل عنهم أنهم أعانوا أهل الكرخ فلما كان من الغد اجتمع عامة أهل السنة من الجانبين وانضاف إليهم كثير من الأتراك وقصدوا الكرخ فأحرقوا وهدموا الأسواق وأشرف أهل الكرخ عن خطة عظيمة وكتب الخليفة إلى الملك والاصفهلارية ينكر ذلك عليهم إنكارًا شديدًا وينسب إليهم تخريـق علامته التي كانت مع الغزاة وأمر بإقامة الحد في الجناة فركب وزير الملك فوقعت في صدره آجرة وسقطت عمامته وقتل من أهل الكرخ جماعة وانتهب الغلمان ما قدروا عليه ثم رتب الوزير قومًا منعوا القتال واحترق وخرب من هذه الفتنة سوق العروس وسوق الأنماط وسوق الصفارين وسوق الدقاقين ومواضع أخرى‏.‏

وفـي ليلـة الأحـد لثمـان بقيـن مـن ربيـع الآخر‏:‏ كبس قوم من الدعار المسجد الجامع ببراثا وأخذوا ما فيه من حصر وسجادات وقلعوا شباكه الحديد وزاد الاختلاط في هذه الأيام وعاد القتال بين العوام وكثرت العملات واجتاز سكران بالكرخ فضرب بالسيف رأس صبي فقلته ولم يجر في هذه الأشياء إنكار من السلطان لسقوط هيبته‏.‏

وفـي جمـادى الآخـرة‏:‏ قتـل العامـة الكلالكـي وكـان ينظـر قديمـًا فـي المعونـة وأحرقـوه ثـم زاد الاختلاط ببسط العوم كثيرًا وأثاروا الفتنة ووقع القتال في أصقاع البلد من جانبيه واقتتل أهل نهر طابق وأهل القلائين وأهل الكرخ وأهـل بـاب البصـرة وفـي الجانـب الشرقـي أهـل سـوق السلاح وأهل سوق الثلاثاء وأهل باب الطاق والأساكفة وأهل سوق يحيى والرهادرة وأهل الفرضـة وأهـل درب سليمـان حتـى قطـع الجسـر ليفـرق بيـن الفريقيـن ودخل العيارون البلد وكبسوا أبا محمد النسوي في داره بدرب الزبرج وكثر الاستقفاء نهارًا والكبس ليلًا‏.‏

وفي هذه الأيام‏:‏ لحقت القادر بالله شكاة أرجف به فوقع الانزعاج وانتقل من كان ملتجأ إلى داره ومقيمًا بها ونقل ما كان فيها من الأموال وتكلم الغلمان في مطالبة الأمير ولي العهد بمال البيعة ثم استقل الخليفة مما وجده ثم وجد الغلمان وأظهروا كراهية الملك جلال الدولة وشكوا اطراحـه تدبيرهـم وأشاعـوا بأنهم يقطعون خطبته في الجمعة المقبلة إلى أن يستقر رأيهم على من يختارونـه فعـرف الملـك ذلـك فأقلقـه وفـرق مـالًا فـي بعضهـم ووعدهـم ونـدل أن يحلـف لهم فحلـف ثـم عادوا الاجتماع والخوض في قطع خطبته وقالوا‏:‏ قد وقفت أمورنا وانقطعت موادنا ويأسنا من أن يجري لنا على يد هذا الملك خير وهو أن أرضى بعضنا فماذا يصنع الباقون وأنفـذوا إلـى دار الخلافـة جماعـة مـن طوائفهـم يقولـون قـد عـرف أمير المؤمنين صورتنا مع هذا الملك وما هو عليه من اطراحنا ونريد أن تأمر بقطع خطبته فخرج الجواب بأننا على ما تعرفون من المراعـاة لكـم وهـذا الرجـل مولاكـم وشيـخ بني بويه اليوم وله في عنفنا عهود وإذا أنكرتم منه أمرًا رددنـاه عنـه وتوسطنـا الأمـر فأمـا غيـر هـذا فلا يجوز الأذن فيه فإن قيلتم هذا وإلا فما خل فيها ولا نأمركم بها فانصرفوا غير راضين وصليت الجمعة من غد ووقعت الخطبة على رسمها إلا فـي جامـع الرصافـة فـإن قومـًا من الأتراك حضروا عند المنبر ومنعوا أبا بكر بن تمام الخطيب من ذكر الملك وضرب أحدهم يد الخطيب وخاف الناس الفتنة فتفرقوا من غير صلاة ثم عاودوا الشكوى حتى شارفت الحال المكاشفة ثم توطنوا فسكتوا‏.‏

وكـان المهرجـان فـي رمضـان فلـم يجلـس السلطـان فيـه ولا ضـرب له دبدبة على ما جرى به الرسم وقد كان الطبالون انصرفوا قبل ذلك بأيام وقطعوا ضرب الطبل في أوقات الصلوات وذلـك لانقطـاع الإقامـة عنهـم وعـن الحواشـي ثـم وقـع عيد الفطر فجرت الحال على مثل هذه السبيل ولم يركب إلى الجامع والمصليان صاحـب المعونـة ولا ضـرب بـوق ولا نشـر علـم ولا أظهـرت زينـة وزاد الاختلاط ووقعت الفتنة بين العوام وأحرقت سوق الخراطين ومدبغة الجلود وقبلها سوق القلائين وكثر الاستقفاء والكبسات ثم حدث في شوال فتنة بين أصحاب الأكسية وأصحاب الخلقان أشفى منها أهل الكرخ على خطر عظيم والفريقان متفقان على مذهب التشيع‏.‏

وثـارت فـي هـذا الوقـت فتنـة بيـن الغلمـان فمالـت العـوام إلى بعضهم فأوقعوا بهم وأخذوا سلاحهم ثم نودي في الكرخ بإخافة العيارين وبإحلالهم يومين فلما كان الليل اجتمعوا وكانوا نحوًا من خمسيـن ووقفوا على دجلة بإزاء دار المملكة وعليهم السلاح وبين أيديهم المشاعل وصاحوا بعد الدعـاء للملـك بأنـا يـا مولانـا عبيدك العيارون وما نريد ابن النسوي واليًا علينا فإن عدل عنه وإلا أحرقنـا وأفسدنـا وانصرفـوا فخرج قوم منهم إلى السواد ثم طلبوا فهربوا ثم عادوا إلى الكبسات والعملات‏.‏

وفي أول ذي الحجة‏:‏ جرت فتنة وقتال شديد على القنطرتين العتيقة والجديدة واعترض أهل باب البصرة قومًا من القميين لزيارة المشهدين بالكوفة والحائر وقتلوا منهم ثلاثة نفر وجرحوا آخرين وامتنعت زيارة المشهد بمقابر قريش يومئذ وفي ذي الحجة توفي القادر بالله وولي القائم بالله‏.‏

 باب ذكر خلافة القائم بأمر الله

اسمه عبد الله بن القادر بالله ويكنى أبا جعفر‏.‏

أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد القـزاز أخبرنـا أبـو بكـر أحمـد بن علي بن ثابت الخطيب قال‏:‏ سمعت أبا القاسم علي بن المحسن التنوخي يذكر أن مولد الإمام القائم بأمر الله يوم الجمعة الثامن عشر من ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلثمائة وأمه أم ولد تسمى قطر الندى أرمنية أدركت خلافته‏.‏

بويع للخلافة القائم بأمر الله بعد موت أبيه القادر بالله يوم الإثنين الحادي عشر من ذي الحجة سنـة اثنتيـن وعشريـن وأربعمائة وكان القادر بالله جعله ولي عهده من بعده ولقبه القائم بأمر الله وخطب له بذلك في حياته‏.‏

قال المصنف رحمه الله‏:‏ وذكر أبو الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام الكاتب أن القائم بأمر الله ولد يوم الخميس ثامن عشر ذي القعدة وأنه بويع له بالخلافة يوم الثلاثاء الثالث عشر من ذي الحجة وأن أمه أم ولد اسمها بدر الدجى وأنه كان سنه يوم ولي إحدى وثلاثين سنة‏.‏

ذكر البيعة لما توفي القادر حضر الأشراف والقضاة والفقهاء والأماثل وحفظت أبواب البلد مخافة الفتنة وخـرج القائـم بأمر الله وقت العصر من وراء ستر فصلى بالحاضرين المغرب وصلى بعدها على القادر فكبر أربعًا ثم جلس في دار الشجرة على كرسي وعليه قميص ورداء فبايعه الناس فكـان يقال للرجل تبايع أمير المؤمنين القائم بأمر الله على الرضا بإمامته والالتزام بشرائط طاعته فيقول‏:‏ نعم ويأخذ يده فيقبلها وأول من بايعه المرتضى وقال له‏:‏ فأما مضى جبل وانقضى فمنك لنا جبل قد رسا وأنـا فجعنـا ببـدر التمـام فقد بعثت منه شمس الضحى لنا حزن في محل السرور وكم ضحك فـي خلـال الرجـا ولما حضرناك عقد البياع عرفنا بهديك طرق الهدى فقابلتنا بوقار المشيـب كما لا وسنك سن الفتى وحضر الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر من الغد وبايعه وكتب إلى البلاد بأخذ البيعـة لـه وهـم الأتـراك بالشغـب لأجـل رسـم البيعـة فتكلـم تركـي بما لا يصلح في حق الخليفة القائم فقتله هاشمي فثار الأتراك وقالوا‏:‏ إن كان هذا بأمر الخليفة خرجنا عن البلـاد وإن لـم يكـن فيسلـم إلينـا القاتـل فخرج توقيع الخليفة أنه لم يجر ذلك بإرادتنا وإنما فعله رعاع في مقابلة قول تجاوز به عدوه ونحن نطلب القاتل ونقيم فيه حد الله تعالى ولم يركب السلطان إلى البيعة غضبـًا للأتـراك ثـم لجـوا فـي طلـب مال البيعة فقيل لهم‏:‏ ان القادر لم يخلف مالًا فأدى الملك بهاء الدولة من عنده إلى الجند ثم تقرر الأمر على ما قيمته ثلاثة آلاف ألف دينار فعرض الخليفة عند ذلك خانًا بالقطيعة وبستانًا وشيئًا من أنقاض الدار على البيع ووزر له أبو طالب محمد بن أيوب وأبو الفتح بن دارست وأبو القاسم بن المسلمة وأبو نصر بن جهير وكان قاضيه ابن ماكولا وأبو عبد الله الدامغاني‏.‏

 ذكر طرف من سيرة القائم بأمر الله

كانت للقائم عناية بالأدب ولم يكن يرتضي أكثر ما ينشأ من الديوان حتى يصلح فيه أشياء وروى الرئيس أبو الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام عن أبي الفضل محمد بن علي بن عامر الوكيل قال‏:‏ دخلت يومًا إلى المخزن فلم يبق أحد إلا وأعطاني قصة وامتلأت أكمامي بالرقاع فلما رأيتها كثيرة قلت‏:‏ لو كان هذا الخليفة أخي أو ابن عمي حتى أعرض عليه هذه الرقـاع لأعـرض عنـي وألقيتهـا فـي بركـة مـاء والقائم ينظر إلي وأنا لا أعلم فلما وقفت بين يديه أمر الخـدم بأخـذ الرقـاع مـن البركـة فتبـادروا إليهـا وبسطوهـا في الشمس فكلما جفت قصة حملت إليه فلمـا تأملهـا وقع عليها جميعها بأغراض أصحابها ثم قال‏:‏ يا عامي وكان إذا ضجر يخاطبني بهذا ما حملك على هذا الفعل وهل كان عليك في إيصالها درك فقلت‏:‏ بل وقع لي ان الضجر يقع منها فقال‏:‏ ويحك ما أطلقنا من أموالنا شيئًا بل نحن وكلاء فلا تعد إلى ما هذا سبيله ومتى ورد عليك وارد فإياك أن تتقاصى عن أنصال قصته‏.‏

وفـي يـوم الإثنين الثامن عشر من ذي الحجة‏:‏ كان الغدير وقام العيارون بالإشعال في ليلته ونحر جمل في صبيحته بعد أن جبوا الأسواق والمحال لذلك واشتد تبسط هذه الطائفـة وخلعـوا جلباب المراقبة وتبسطوا وضربوا وقتلوا وفعل أهل السنة في محالهم ما كانوا يفعلونه من تعليق الثياب والسلاح وإظهار الزينة ونصب الأعلام وإشعال النيران ليلًا في الأسواق في يوم الإثنين المقبل زعمًا منهم أنه في هذا اليوم اجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار‏.‏

ثم إن العيارين أسعروا الناس ليلًا كبسًا لمنازلهم وأخذا لأموالهم ثم ظهروا وعدلوا بالكبسات عن الكرخ إلى باقي المحال‏.‏

وورد الخبر بأن قومًا من الدعار كبسوا أبـا الطيـب ابـن كمارويـه القاضـي بواسـط فـي داره واخذوا ما وجدوه وضربوه ضربات كانت فيها وفاته‏.‏

وخرجت هذه السنة ومملكة جلال الدولة ما بين الحضرة وواسط والبطيحة وليس له من ذلك إلا الخطبـة فأمـا الأمـوال والأعمـال فمنقسمـة بيـن الأعـراب والأكـراد والأطـراف منهـا فـي أيـدي المقطعين من الأتراك والوزارة خالية من ناظر فيها‏.‏

وتأخرت الأمطار في هذه السنة وقلت الزراعة في السواد لقلة المياه وتجدد لاحتباس القطر يبـس في الأبدان فأصاب أكثر الناس نزلات في رؤوسهم وصدروهم معها حمى وسعال فكثر طباخو ماء الشعير حتى طبخه أصحاب الأرز باللبن وبيع كل ثلاثين رمانـة حلـوة بدينـار سابوري ومنا شراب بعشرة قراريط وأصحاب أهل الري وهمذان وحلوان وواسط ونواحي فارس وكرمان وأرجان نحو ذلك وكان السبب تأخر المطر‏.‏

ولم يحج الناس في هذه السنة من خراسان والعراق لانقطاع الطرق وزيادة الاضطراب‏.‏

أحمد القادر بالله أمير المؤمنين ابن إسحاق بن المقتدر أخبرنـا أبـو منصـور القـزاز أخبرنـا الخطيـب قـال‏:‏ توفـي القـادر بالله في ليلة الإثنين الحادي عشر من ذي الحجـة سنـة اثنتيـن وعشريـن وأربعمائـة ودفـن ليلـة الثلاثـاء بين المغرب والعشاء في دار الخلافة بعـد أن صلـى عليه ابنه القائم بأمر الله ظاهرًا وعامة الناس وراءه وكبر عليه أربعًا فلم يزل مذ توفـي في الدار حتى نقل تابوته وحمل في الطيار ليلًا إلى الرصافة فدفن بها في ليلة الجمعة لخمس خلون من ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وكان مبلغ عمر القادر بالله ستًا وثمانين سنة وعشرة أشهر وإحدى وعشرين يومًا وكانت مدة خلافته إحدى وأربعيـن سنـة وثلاث أشهر ولم يبلغ هذا القدر أحد في الخلافة غيره‏.‏

وقـال غيـره‏:‏ جلسـوا في عزائه سبعة أيام لمعنيين أحدهما تعظيم المصيبة والثاني لاجتماع العامة وإقامة الهيبة خوفًا من فتنة الغلمان‏.‏

الحسن بن علي بن جعفر أبو علي بن ماكولا وزر لجلال الدولة أبي ظاهر وقتله غلام له بالأهواز في ذي الحجة من هذه السنة وكان عمره طلحة بن علي بن الصقر أبو القاسم الكتاني سمع النجاد وأبا بكر الشافعي وكان ثقة صالحًا يسكن درب الدجاج وتوفي في ذي القعدة من هذه السنة ودفن بالشونيزية‏.‏

عبد الوهاب بن علي بن نصر أبو محمد المالكي كـان فقيهـًا علـى مذهـب مالـك وولـي قضـاء بادرايا وباكسايًا وخرج من بغداد لإضافته فحصل له مال كثير من المغاربة ومات بها في شعبان وقال شعرًا يتشوق فيه إلى بغداد‏:‏ سلام على بغداد في كل موقف وحق لها مني سلام مضاعف فوالله ما فارقتها على قلى لها وإني بشطـي جانبيهـا لعـارف ولكنها ضاقت علـي بأسرهـا ولم تكن الأرزاق فيها تساعف فكانت كخل كنت أهوى دنوه وأخلاقه تنأى به وتخالف أخبرنا القزاز أخبرنا الخطيب قال‏:‏ روى عبد الوهاب عن ابن شاهين وكتبت عنه وكان ثقة ولم نلق من المالكيين أحدًا أفقه منه‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها‏:‏ أن المطـر لمـا تأخـر فـي الشتـوة وخـرج الناس للاستسقاء لست خلون من المحرم بأمر من دار الخليفة فذهبوا إلى الجوامع واستمر تأخر المطر وكثر الموتان بنواحي النيل‏.‏

وفي يوم الثلاثاء‏:‏ كان عاشوراء علقت المسوح في الأسواق وأقيم النواح في المشاهد وتولى ذلك العيارون‏.‏

وفـي يـوم الإثنيـن سـادس عشـر المحـرم‏:‏ قـرئ فـي الموكـب عهـد خـرج مـن حضـرة القائـم بأمر الله بإقرار قاضـي القضـاة أبـي عبـد الله الحسين بن علي على ما يتولاه من قضاء القضاة وكان في الكتاب وأن أمير المؤمنين أعمـل فكـره وأدام سبـره فـي اختيـار مـن يسنـد أليـه الأحكـام ويجعلـه حجـة بينـه وبيـن اللـه تعالـى فـي هـذا المقـام وكان الحسين بن علي قاضي القضاة منتهى رأيه ومقر اختياره لما هو عليه من عفافه واستقامة طريقته وأمره في الكتاب بتقوى الله والعدل في الحكم وترك المحاباة وأورد فيه أخبارًا كثيرة في العدل وحكايات‏.‏

وفي يوم الجمعة لخمس خلون من صفر‏:‏ ثار أهل الكرخ بالعيارين وطلبوهم فهربوا فكبسوا دورهم ونهبوا سلاحهم وراسلوا السلطان ليعاونهم وكان سبب هذا الفعل أن العيارين دخلوا ليلًا على أحد البزازين فأخذوا ماله فتعصب أهل سوقه فرد العيارون بعض ما أخذوا‏.‏

ثـم كبسـوا في ليلة الأحد دار ابن الفلو الواعظ بدار القطن من نهر طابق فأخذوا ماله وما كان للنـاس عنـده ومـروا علـى عادتهـم فـي الكبسـات واختلـط بهـم في العملات مولدو الأتراك وحواشيهم ثم إن الغلمان صمموا على عزل جلال الدولـة أبـي طاهـر وإظهـار أبـي كاليجـار وقـال بعضهـم لبعـض‏:‏ هـذا الملك مشغول عنا وقد طمع فينا حتى العوام وبلغ منا الفقر فتحالفوا على خلعه واجتهدوا في إصلاحهم فلم ينفع وقالوا له‏:‏ لا بـد أن تخـرج عنـا وتنحـدر إلـى واسط‏.‏

وفـي يـوم الإثنيـن لثمـان بقيـن مـن صفـر‏:‏ قـرئ فـي الموكب بدار الخلافة كتاب ورد من القاضي أبي إسحـاق محمـد بـن عبـد المؤمـن بإسكـاف وتوقيع أقرن به وأمر الناس فيه بالخروج إلى الاستسقاء وكـان فـي ذلـك الكتـاب أنـه ذكر عـن رجـل أنـه حكـى أن امـرأة عربيـة ولـدت ولـدًا لم يظهر منه سوى رأس بفم وأسنان وحلق كالخيارة منتفخة وبقية البدن كالحية والمصران بلا يد ولا رجل فحين سقط إلى الأرض تكلم وقال الناس تحت غضب منذ أربع سنين ويجب عليهم الإنابة وأن يخرجوا إلى الاستسقاء والأطفال والبهائم فخرج التوقيع يذكر فيه أن امتناع القطر لأجل ما أقام عليه المذنبون من المعاصي فتقدم إلى الناس بالخروج في يوم الجمعة والسبت والأحد بعد أن يصومـوا هـذه الأيـام الثلاثـة ويخلصـوا الدعاء والابتهال فلم يخرج في يومي السبت والأحد إلا عدد قليـل لـم يتجـاوز عددهم يوم السبت في جامع المدينة نيفًا وأربعين وببراثا عشرة نفر وخرج يوم الأحـد إلـى جامـع المدينـة سبعـة عشر وببراثا خمسة نفر وكانت الجوامع الباقية على نحو هذا فلم يسق الناس ولا أغيثوا‏.‏

وفي يوم الجمعة الثالث من ربيع الأول‏:‏ ركب جماعة من القواد فقطعوا خطبة جلال الدولة وبلغـه ذلـك فأزعجـه وبعـث خواص جواريه إلى دار الخلافة وغيرها وخير الباقيات بين أن يعتقن أو يأخذن لنفوسهن ومنهن من أعتق ومنهن من مضى إلى من كن له من قبل ثم اجتمع الغلمان وراسلوا الملك فقالوا‏:‏ قد علمت ما وافقتنا عليه من الانحدار إلى واسط والوجه أن تستخير اللـه فـي ذلـك فقـال‏:‏ إنمـا قررتـم مـن يخـرج معـي مـن يسلـم إلـى البصـرة فأمـا أن أخـرج على غير قاعدة فما أفعل وامتلأ جانبا دجلة وشطها بالناس والسميريات وترددت الرسل إلى الملك بالمطالبـة بالخروج فقال‏:‏ ابعثوا معي مائة غلام يحرسونني في طريقي فقالوا‏:‏ لا يمكن مائة ولكن عشرون فقـال‏:‏ أريـد شفيقـًا يحملنـي ونفقـة تنهضنـي فقـرروا بينهم إطلاق ستين دينارًا لنفقة من يصحبه من الغلمان والتزم بعض القواد منها ثلاثة دنانير ونصفًا‏.‏

فلمـا كـان الليـل مـن ليلـة الإثنيـن سـادس ربيـع الـأول خـرج فـي نفـر مـن غلمانـه فمضى إلى عكبرا على وجه المخاطرة فتبادر الغلمان إلى دار المملكة فهبوا ما فيها وكتب الإصفهلارية عن نفوسهم وعـن فـرق مـن الغلمـان وطوائفهـم كتبـا إلـى الملـك أبـي كاليجـار بمـا فعلوه في خدمته وهنأوه باجتماع الكلمة على طاعته واستدعوا منه إنفاذ من يدبر الأمور ويحفظ نظام الجمهور وأخرجوا بها ركابية فقال‏:‏ هؤلاء الأتراك يكتبون ما لا يعقدون الوفاء به ويعـدون ولا يصدقـون فـإن كانـوا محقين في طاعتهم فليظهروا شعارنا وليخرجوا من عندهم ولا أقل من أن يخرجوا إلينا منهم خمسمائة غلام ليكون توجهنا معهم فأما بالاغترار بأقوال لا يعرف ما وراءها فلا والوجه أن يعلل القوم بالمدافعة وتوقعوا ما تحدثه الأيام فإنهم في كل يوم يضعفون وتدعوهم الضرورة إلينا فنأخذ الأمر عفوًا ونربح المال الذي ننفقه والغرر الذي نركبه وكان مـن وزراء أبـي كاليجـار أبو منصور بن فنة وكان فاضلًا ومن آثاره دار كتب وقفها على طلاب العلم جمع فيها تسعة عشر ألف مجلد ما فيها إلا أصل منسوب وفيها أربعة آلاف ورقة بخط بني مقلة ثم اختلت المملكة وقطع عن جلال الدولة المادة حتى أخرج من ثيابه وآلاته الحقيرة وباعها في الأسواق وخلت داره من حاجب وفراش وبواب وصار أكثر الأبواب مغلقًا وقطع ضرب الطبل له في أكثر الأيام لانقطاع الطبالين وظهر العيارون وكثر الاستقفاء والكبسات ومد الأتراك أيديهم إلى الغصـوب وتشـاور القواد في أن يخطب للملك أبي كاليجار فقال بعضهم‏:‏ لا نخطب لأحد حتى تستقر أمورنا معه وخرج الملك إلى عكبرا وقصد حلة كمال الدولة أبي سنان فاستقبل وقبل الأرض بين يديه وقال له‏:‏ خزانتي وأموالي وبلادي لك وأنا أتوسط بينك وبين جندك وزوجه ابنتـه ثـم مضـى إليـه جماعـة مـن الجنـد واعتـذروا مما فعلوا وأعيدت خطبة جلال الدولة في السابع عشر من ربيع الأول فأقيمت في جامع المدينة وجامع الرصافة ولم تقم في جامع الخليفة قم أقيمت فيه في الجمعة الثالثة‏.‏

وفـي يـوم السبـت الثامـن عشـر منـه‏:‏ خـرج أبـو منصـور بـن طـاس الحاجب وأبو القاسم علي بن أبي علي وخادمان إلى حضرة الملك بكتاب من الخليفة يتضمن الاستيحاش لبعده ويهنئه بالسلامة واسفار الأمور عن الاستقامة ثم بعث الخليفة القاضي أبا الحسن الماوردي ومبشرًا الخادم إلى الملك أبي كاليجار إلى الأهواز بكتاب قال الماوردي‏:‏ قدمنا عليه فتلقينا وأنزلنا دارًا عامرة وحملت إلينا انزال كثيرة ثم استدعينا إلى حضرته وقد فرشت دار الإمارة بالفروش الجميلة ووقف الخواص والأصحاب على مراتبهم من جانبي سريره وأقيم الجند في المجلس والصحن صفيـن فما يتجاوز قدم قدمًا وفي آخر الصفين ستمائة غلام دارية البزة الحسنة والأقبية الملونة فخدمنـا وسلمنـا وأوصلنـا الكتـاب وتـردد مـن القـول بيـن استخبـار وأخبـار الأخبار وابتداء وجواب وأقيمت الخطبة في يوم الجمعة السابعة ليوم اللقاء ثم جرى الخوض فيما طلبـوه مـن اللقـب واقترحوا أن يكون اللقب السلطان المعظم مالك الأمم فقلت‏:‏ هذا لا يمكن لأن السلطان المعظم الخليفة وكذلك مالك الأمم فعدلوا إلى ملك الدولة فقلت‏:‏ هذا ربما جاز وأشرت أن يخدم الخليفـة بألطـاف فقالـوا‏:‏ يكـون ذلـك بعد التقليب فقلت‏:‏ الأولى بأن يقدم ففعلوا وحملوا معي ألفي دينـار سابوريـة وثلاثيـن ألـف درهـم نقـرة وعشـرة أثـواب خـزًا سوسيـًا ومائـة ثـوب ديباجيـًا مرتفعة ومائة أخرى دونها وعشرين منا عودًا‏.‏

وعشرة أمناء كافورًا وألف مثقال عنبر وألف مثقال مسكًا وثلاث مائة صحن صيني ووقع بأقطاع وكيل الخدمة خمسة آلاف دينار مغربية من معاملات البصرة وأن يسلم إليه ثلاث آلاف قوصرة كل سنة ويجاز بغير مؤونة ولا ضريبة وأفرد عميد الرؤساء أبو طالب ابن طالب بن أيوب بخمسمائة دينـار وعشـرة آلـاف درهـم وعشرة أثواب ديباجًا وعدنا إلى بغداد فرسم لي الخروج إلى جلـال الدولـة وأعلامـه الحـال فخرجـت وتلطفـت فـي إجـراء حديـث اللقـب ومـا سأله الملك فثقل عليه ذلك ثقلًا اقتضاء وقوف الأمر فيه‏.‏

وفي ربيع الآخر وكان في أذار‏:‏ جمد الماء جمودًا ثخينًا حتى في حافات دجلة وهبت ريح رمت رملًا أحمر وقام الثلج ما جمـع ودق واستمـر تأخـر الأمطـار وأجدبـت الـأرض وتلفـت وقوي أمر العيارين وكبـس رئيسهـم البرجمـي خانـًا فأخـذ جميـع مـا فيـه فقوتـل فقتـل جماعـة وكـان يأخـذ كـل مصعـد ومنحـدر وكبـس دارًا بسـوق يحيـى وأخـذ مـا فيهـا وأحرقها هذا والعسكر ببغداد‏.‏

وفـي هـذا الشهر‏:‏ اجتمع الجند ومنعوا من الخطبة للخليفة لأجل رسول البيعة فلم تصل الجمعة فتلطف الأمر حتى أقيمت الخطبة في الجمعة الثانية على العادة‏.‏

وفي هذا الشهر‏:‏ حلف الملـك للخليفـة يمينـًا حضرهـا المرتضـى وقاضـي القضـاة ابـن ماكـولا وغيرهما وركب الوزير أبو القاسم من غد إلى دار الخلافة فحضر عنـده وحضـر المرتضـى وقاضي القضاة فحلف الملك فكان فيها‏:‏ ‏"‏ أقسم عبد الله أبو جعفر القائم بأمر اللـه أميـر المؤمنين فقال‏:‏ واللـه الـذي لا إلـه إلا هـو الطالـب الغالـب المـدرك المهلـك عالـم السـر والعلانيـة ووحـق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ووحق القرآن العظيم والآيات والذكر الحكيم لأقيمن لركـن الدولـة جلـال الدولـة أبـي طاهـر بـن بهاء الدولة أبي نصر على إخلاص النية والصفاء ولألتزمن له شروط الموافقة والوفاء من غير إخلال بما يصلح حاله ويحفظ عليه مكانه ولأكونن له على أفضل ما يؤثره من حراسته في نفسه وما يليه ولوزير الوزراء أبي القاسم وسائر حاشيتـه وإقراره على رتبته وله علي بذلك عهد الله وميثاقه وما أخذه على ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين والله شهيد على ذلك وهذه اليمين يميني والنية فيها نية جلال الدولة أبي طاهر‏"‏‏.‏ وذلك في ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة‏.‏

وفي عشية يوم الأربعاء لخمس خلون من جمادى الأولى‏:‏ عند تصويب الشمس للغروب انقض كوكـب كبيـر الجـرم كثيـر الضـوء وعـاد فـي هـذا الوقت أمر العيارين فاشتد وتجدد القتال بين العوام ثم ولي ابن النسوي فردعهم ردعًا تامًا‏.‏

وفي نصف رجب‏:‏ عصفت ريح شديدة ثلاثة أيام متصلة ليلًا ونهارًا واحتجبت منها السماء والشمس ورمت ترابًا أحمرًا ورملًا‏.‏

وفي هذا الشهر‏:‏ زادت الأسعار ووردت الأخبار بتلـف الغلـات فـي الموصـل وأنـه لـم ترجـع البذور في كثير من النواحي وكذلك الأهواز وواسط ووردت الأخبار عـن الأحسـاء وتلـك البلاد أن الأقوات عدمت فاضطر أهل بادية كانوا فيها إلى أكل مواشيهم ثم أولادهـم وكـان الواحد يعارض بولده ولد غيره كيلا تدركه رقة في ذبحه وأكله وفارق أهل البوادي منازلهم‏.‏

وفـي ليلـة الإثنيـن ثانـي شـوال‏:‏ انقـض كوكـب أضاءت منه الأرض وارتاع له الناس وكان في شكل ولم يزل يتقلب حتى اضمحل‏.‏

وفـي يـوم الأربعـاء حـادي عشـر شـوال‏:‏ نـزل الملـك أبـو طاهـر مـن داره علـى سكـر وانحـدر فـي سميرية بمنكور إلى دار الخلافة ومعه ثلاثة نفر من حواشيه وصعد إلى بستان الدار ورمى بعض معيناته القصب ودخله ثم جلس تحت شجرة واستدعى نبيذًا فشربه وأمـر الزامـر أن يزمـر فزمر وعرف الخليفة ذلك فشق عليه وأزعجه وغلقت أواب الدار على وجه الاستظهار ثم خـرج إليـه القاضـي أبـو علي ابن أبي موسى وأبو منصور بن بكران الحاجب فخدماه ووقفا بين يديـه وقـالا لـه‏:‏ قـد سر مولانا السلطان قرب مولاه وانبساطه وأما النبيذ والزمر فإنهما مما لا يجوز في هذا الموضع فلم يقبل ولا امتنع وقال لأبي منصور بن بكران‏:‏ قل لمولانا أمير المؤمنين أنا عبـدك وقد حصل وزيري أبو سعد في دارك ووقف أمري بذلك وأريد أن يتقدم بتسليمه إلي فأراد أبو منصور أن يجيبه فزبره وقال له‏:‏ ليس الخطاب معك ولا الجواب عليك وإنما أنت رسـول فامـض وأعـد مـا قيـل لك‏:‏ فمضى وعاد بجواب يقال فيه‏:‏ ما نعلم أن الوزير في دارنا ولا ها هنا امتناع عليك مما يؤدي إلى صلاح أمرك فرده‏.‏

وقال‏:‏ أريد جوابًا محصلًا بفعل أو منع فعاد وقال‏:‏ الأمر يجري على ما تؤثره فقال للمختص أبي غانم‏:‏ أشهد عليهم بأنهم يسلمون وزيري فقال له‏:‏ الأمر لك وجعلوا يدارونه حتى نزل إلى زبزبه وأصعد إلى داره واجتمع من العامـة علـى دجلـة خلـق كثيـر يهـزأون بالقـول ويخرجـون إلى الحرق ومعهم سيوف وسكاكين مستورة فلمـا كـان مـن الغـد استدعـى الخليفـة المختـص أبـا غانـم والقائـد أبا الوفاء وقال لهما‏:‏ قد عرفتما ما جـرى أمـس وأنـه أمـر زاد علـى الحـد وتناهـى فـي القبـح وقابلنـاه بالاحتمـال والحلم وكان الأولى بجلال الدولـة أن يتنـزه عـن فعلـه وينزهنـا عـن مثلـه ويتخلق بأخلاق آبائه في مراعاة الخدمة والتزام الحشمة ويكفي ما نحن محملوه من مجاري الأفعال المحظورة ومتحملوه فيها من سوء السمعة والأحدوثة فـإن جرائـر ذلـك متعلقـة بنـا وأوزاره متعديـة إلينـا إذا كانـت هـذه الأمـور معصوبـة بنا وإنما فوضناها إلى جلال الدولة إحسانًا للظن به واعتقادًا للجميل فيه وليس من حقوق ذلك وما نفضي عليه من الأسباب المذكورة ونتجرعه فيها من المـرارة الشديـدة أن يرتكـب معنـا هـذه المراكـب المستنكرة ويجترئ علينا هذه الجراآت المستمرة ونعامل حالًا بعد حال ووقتًا بعد وقت بما يفارق فيه المراقبة والمجاملة وكيف كانت الصورة تكون لو جرى من ذلك الجمع نادرة غلط وهل كان الفائت يستدرك والآن فإما رجع معنا إلى الأولى وسلك الطريق المثلى وإلا فارقنا هذا البلد ودبرنا أمورنا بما يجب‏.‏

فقبلا الأرض وأقاما بعض العذر ومضيا إلى الملك فأوردا عليه ما سمعاه واعتذارهما عنه فركب يوم الجمعة في زبزبه وأشعر الخليفة بحضوره للاعتذار فنزل إليه عميد الرؤساء أبو طالـب بـن أيـوب وخـدم وقـال لـه‏:‏ تذكر حضـوري للخدمـة وتجديـد الاعتـذار مـن تلـك الخرمة التي لم تكن بارادة ووقف حتى رجع بجواب يدل على قبول العذر وشكر ما استونف من الفعل ثم وفي ليلة الجمعة لخمس خلون من ذي القعدة‏:‏ نقل تابوت القادر بالله من دار الخلافة إلى التربة بالرصافة واختير هذا الوقت لأجل حضور حاج خراسان في البلد واجتمع الأكابر وعليهم ثيـاب التعزيـة وحمـل التابوت إلى الطيار ثم حمل من مشرعة باب الطاق على أعناق الرجال إلى التربة والجماعة مشاة بين يديه‏.‏

وصـح عنـد الناس عدم المياه في طريق مكة والعلوفة فتأخروا وحضر الناس يوم الموكب لخمس بقين من هذا الشهر فأظهر أن أبا الحسن علي بن ميكائيل الوارد من خراسان قد بذل إطلاق ألفـي دينـار تنفـق علـى طريـق مكـة فـرد الخبر على الخليفة ذلك وأطلقه من خزانته وخلع على ابن الأقساسي لتقلده النيابة عن المرتضى في الحج‏.‏

وورد الكتاب من البصرة بما جرى على حاج البصرة من أخذ العرب لهم على ثلاثة أيام من البصرة وأنهم نهبوا وسلبوا وجاعوا فبعث إليهم الوزير أبو الفرج ابن فسانجس جمالًا وزادًا وتمرًا لحملهم ومعاونتهم‏.‏

وحـج النـاس مـن الأمصار إلا من بغداد وخراسان وورد مع المصرية كسوة للكعبة ومال للصدقة وصلات لأمير مكة‏.‏

ووردت الأخبار بما كان من الوباء والموت في بلاد الهند وغزنة وكثيـر مـن أعمـال خراسـان وجرجان والري وأصبهان ونواحي الجبل والموصل وأن ذلك زاد على مجاري العادة وخرج من أصبهـان فـي مـدة قريبـة أربعـون ألـف جنـازة وكان ببغداد من ذلك طرف قوي ومات من الصبيان والرجال والنساء بالجدري ما زاد على حد الإحصاء حتى لم تخل دار من مصاب واستمر هـذا الجـدري فـي حزيـران وتمـوز وآب وأيلـول وتشريـن الـأول والثانـي وكان في الصيف أكثر منه في الخريف وجاء كتاب من الموصل أنه مات بالجدري أربعة آلاف صبي‏.‏

وخرجـت هـذه السنـة ومملكة جلال الدولة مشتملة على ما بين الحضرة وواسط والبطيحة وليس له من جميع ذلك إلا إقامة الخطبة والوزارة خالية عن ناظر فيها ورأى رجل من أصبهان في النـوم أن شخصـًا صعـد منارة مسجد أصبهان وكان أهل أصبهان إذ ذلك في خفض من العيش والراحة والأمن وقال بصوت جهوري رفيع إلى أن أسمع أهل أصبهان‏:‏ ‏"‏ سكت نطق سكت نطق سكت نطق ‏"‏ ثلاث مرات فانتبه الرجل فزعًا وحكى هذا المنام فما عرف تأويله فقال رجل‏:‏ احذروا يا أهل أصبهان فإني قرأت في شعر أبي العتاهية‏:‏ سكت الدهر زمانًا عنهم ثم أبكاهم دمًا حين نطق فما مر على هذا الحديث إلا أيام قلائل حتى جاء مسعود بن محمود بن سبكتكين فنهب البلد وقتل عالمًا لا يحصى حتى قتل جماعة في الجوامع نسأل الله العافية‏.‏

إسماعيل بن إبراهيم بن علي بن عروة أبو القاسم البندار ولد في رجب سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة وحدث عن أبي سهل بن زياد وأبي بكر الشافعي وكان صدوقًا وتوفي في محرم هذه السنة‏.‏

روح بن محمد بن أحمد أبو زرعة الرازي‏:‏ أخبرنا القزاز أخبرنا الخطيب قال‏:‏ جد روح أبو بكر ابن السني الدينوري الحافظ واسمه أحمد بـن محمـد بـن إسحـاق بـن إبراهيـم بـن أسبـاط بـن عبـد اللـه بن إبراهيم بن بديح مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب‏.‏

سمع أبو زرعة جماعة وقدم علينا حاجًا فكتبنا عنه ولقيته بالكرخ فكتبـت عنـه هنـاك وكـان صدوقـًا فهمـًا أديبـًا يتفقه على مذهب الشافعي وولي قضاء أصبهان وبلغني أنه مات بالكرخ في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة‏.‏

علي بن أحمد بن الحسن بن محمد بن نعيم أبو الحسن البصري النعيمي نسبة إلى جده‏:‏ حدث عن جماعة وكان حافظًا فاضلًا شاعرًا‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال‏:‏ سمعت محمد بن علي الصوري يقول‏:‏ لم أر ببغداد أحدًا أكمل من النعيمي كان جمع معرفة الحديث والكلام والأدب ودرس شيئًا من فقه الشافعي قال‏:‏ وكان أبو بكر البرقاني يقول‏:‏ هو كامل في كل شيء لولا بأو فيه‏.‏

أنشدنا أبو نصر أحمد بن محمد الطوسي قال‏:‏ أنشدنا الحسين بن عاصم أنشدنا أبو الحسن البصري المعروف بالنعيمي لنفسه‏:‏ إذا أظمأتك أكف اللئام كفتك القناعة شبعًا وريا فكن رجـلًا رجلـه فـي الثـرى وهامـة همته في الثريا أبيًا لنائـل ذي ثـروة تـراه بما في يديه أبيا فإن اراقه ماء الحيـا ة دون إراقة ماء المحيـا توفي النعيمي في ذي القعدة من هذه السنة‏.‏

محمد بن أحمد بن السري بن أبي عون أبو الحسن النهرواني سمع أبا بكر بن مالك الاسكافي وغيره‏.‏

أخبرنا القزاز أخبرنا أبو بكر الخطيب قال‏:‏ قدم علينا هذا الرجل بغداد في حياة أبي الحسن محمد بن الطيب بن سعيد بن موسى أبو بكر الصباغ حدث عن أحمد بن سليمان النجاد وأبي بكر الشافعي وكان صدوقًا‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن أخبرنا أبو بكر الخطيب قال‏:‏ سمعت رئيس الرؤساء أبا القاسم علي بن الحسن يقول‏:‏ تزوج محمد بن الطيب الصباغ زيادة على تسعمائة امرأة‏.‏

قـال الخطيـب‏:‏ وسمعـت محمـد بـن الطيـب يقول‏:‏ ولدت في سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة

ومات يوم الجمعة تاسع ربيع آخر سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها‏:‏ أن الخليفة هنئ بدخول الحمام من جدري ظهر به وكتم الأمر فيه إلى أن برأ وذلك في المحرم‏.‏

وفـي يوم الإثنيـن لسـت بقيـن مـن صفـر كبـس البرجمـي العيـار درب أبـي الربيـع ووصـل إلـى مخـازن فيهـا مال عظيم وتفاوض الناس أن جماعة من الأصبهلارية خرجوا إليه وآكلوه وشاربوه فظهر من خوف الخلق منه ما أوجب نقل الأموال إلى دار الخليفة وواصل الناس المبيت في الـدروب والأسواق للتحفظ وزيد في حرس دار الخلافة وطيف وراء السور وقتل صاحب الشرطـة بباب الأزج غيلـة واتصلـت العملـات وكبسـت دار تاجـر فأخـذ منهـا مـا قيمتـه عشـرة آلـاف دينار وزادت المخافة من هذا العيـار حتـى صـار أهـل الرصافـة وبـاب الطـاق ودار الـروم لا يتجاسـرون علـى ذكره إلا أن يقولـوا القائـد أبـو علـي لئلا يصل إليه منهم غير ذلك وشاع عنه أنه لا يتعرض لامرأة ولا يمكن من أخذ شيء معها أو عليها‏.‏

وفي ربيع الأول‏:‏ خرج جماعة من القواد والاصبهلارية في طلب هذا البرجمي عند زيادة أمره وتعاظم خطبه واتصال فساده فنزلوا الأجمة التي يأوى إليها وهي أجمة ذات قصب وماء كثير تمتد خمسة فراسخ وفي وسطها تل قد جعله معقلًا ومنزلًا فترتب كل واحد من الاصبهلارية علـى بـاب مـن أبوابها فخرج إليهم البرجمي في ركاء وعلى رأسه غلامه وقال لهم‏:‏ من العجب خروجكم إلي وأنا كل ليلة عندكم فإن شئتم أن ترجعوا وأدخل إليكم فعلت وإن شئتم أن تدخلوا إلي فافعلوا فذكر أن قومًا منهم راسلوه وقووا نفسه وأروه أنهم يردون العسكر عنه‏.‏

وفي جمادى الأولى‏:‏ كثرت العملات والكبسات ووقع القتال في القلائين وعلى القنطرتين وعاد الاختلاط وطرحت النار فاحترق شيء عظيم وأسواق ومساجد وغيرها ووقع النهب في وفي هذه الأيام‏:‏ تغيرت قلوب الجند فقدم الوزير أبو القاسم فظنوا أن وروده للتعرض بأموالهم ونعمهم واستوحشوا وأنكروا ورود الوزير من غير إجماع منهم ولا استقرار قاعدة معهم فـي أمره وأظهر المطالبة بما أخذه الملك من مال بادرويا فجاءت منهم جماعة إلى باب دار السلطان وصاحوا وجلبوا وأخذوا دواب من كان هناك وانزعـج الوزيـر ومـن معـه مـن الأكابـر وبـادروا الدخـول إلـى صحـن الـدار مبـادرة ازدحمـوا فيهـا وانقضى ذلك اليوم واجتمعوا من غد في مسجد القهرمانـة وتكلمـوا فـي إهمـال السلطـان لأمورهم وأخذ أموالهم وعقدوا آراءهم على مراسلة الملك بتسليمه أقوامًا من أصحابه وخروجـه مـن بغـداد إلـى واسـط أو البصـرة وإقامـة أحـد أولـاده الأصاغر عندهم ثم انفصلت طائفة منهم فاجتازوا على دار المملكة فإذا باب البستان مفتوح فدخلوا بدوابهم فعرف الملك فخرج من دور الحرم إليهم فرأوه فتراجعوا قليـلًا فأطـاف بهـم غلمان الدار والحواشي فأمرهم بالانصراف فتبعه أحد خواصه فضربه بآجرة فرجع ومشى وحده إلى القوم وقال لهم‏:‏ تعالوا حتى أسمع كلامكم وأنظر ما تريدون فأحاطوا به وأخذوه وأخرجـوا إلـى دجلـة وهـم لا يـدرون ما يفعلون لأن الذي جرى منهم لم يكن على أصل ولا اتفاق وإنما كان تخليطًا وأنزلوه سميرية فلما حصل فيها قال بعضهم لبعض‏:‏ هذا غلط وربما عبر إلى الجانب الغربي واعتصم بالكرخ واستجاش العوام والصواب أن نحمله إلى مجمع الغلمان ليدبروا أمره بما يرون فتسرعوا إلى رد السميرية وعلقوا بمجدافها واضطربت فدخلها الماء حتى ابتلت ثيابـه وتكابـوا عليه فرجموه وأخرجوه ومشوا به خطوات كثيرة فأعطاه الأتراك فرسه فحملوه إلى الجمع بعد أن كلموه بكل قبيح وأقاموا راكبًا في الشمس زمانًا وأنزلوه فوقف على عتبة الباب طويلًا ثم دخل المسجد فوكلوا به ثم تفرقوا إلى منازلهم وجاءت صلاة الظهر وهو مشتغل بالصلاة والدعاء ثم تآمروا على نقله إلى الدار المهلبية فخرج القائد أبو الوفاء ومعه عشرون غلامـًا داريـة وحواشـي الـدار والعامـة ومـن تـاب مـن العياريـن وهجـم عليهـم فدفعهم عنه واستخرجوه من أيديهم فأعادوه إلى داره وكان ذلك في رمضان فنقل الملك ولده وحرمه وما بقـي مـن ثيابـه وآلاتـه ودوابـه وفـرش داره إلـى الجانب الغربي بعد أن نهب الغلمان ما نهبوا من ذلك ثـم عبـر فـي آخـر الليـل إلـى الكـرخ فتلقـاه أهلها بالدعاء فنزل في دار المرتضى بدرب جميل وعبر الوزير أبو القاسم بعبوره فنزل في دار تجاوره ثم اجتمع الغلمان وعزموا على عقـد الجسـر والعبور للمطالبة لأهل الكرخ بإخراج الملك عنهم ثم تشاوروا فاختلفوا فقال الخائفون من عقبى ما جنوا على الملك‏:‏ هذا الملك قد أقل مراعاتنا والمبالاة بنا وأخذ أموالنا وتركنا جياعًا وما ينفـع فيـه عـذل ولا يصلحـه قبيـح ولا جميـل وقـد كـان منـا إليه ما قد علمتم أولًا وأخيرًا ما لا يصفو لنـا معـه نيـة منه‏.‏

وقال آخرون‏:‏ فما ترون وما الذي نفعل‏.‏

وهل ها هنا من نجعله عوضًا عنه ومـا بقـي مـن بنـي بويـه إلا هـو وأبـو كاليجـار ابـن أخيـه قـد سلـم الأمـر إليـه ومضـى إلـى فارس وتنحل الأمر إلى أن كتبوا إلى الملك رقعة يقولون فيها‏:‏ ‏"‏ نحن عبيدك ومماليكك ملكناك أمورنا ابتداء وقـد ضيقـت علينا مرة بعد مرة وتعدنا وتعتذر إلينا ولا نجد أثر ذلك ولك ممالك كثيرة فيجوز أن تطرح كلك عنها مدة وتوفر علينا هذه الصبابة من المادة‏.‏

وهذا أمر قد اجتمعت عليه كلمتنا ومن الصواب أن لا تخالفنا فيه وتحوج هذا العسكر إلى تجاوز ما قد وقفوا عنده ‏"‏‏.‏

وأنفـذوا الرقعـة إلى المرتضى ليعرضها ويتنجز جوابها فعرضها عليه فأجاب‏:‏ ‏"‏ بأنا معترفون لكم بما ذكرتم وما يحصل لنا نصرفه إليكم وأما خروجنا فالأحوال التي نقاسيها تدعو إليها ولو لم تسألوه وهذه أيام صوم وحر وإذا انقضت انحدرنا على ما هو أجمل بنا وبكم ‏"‏ فلما وصل الجواب نفروا وقالوا‏:‏ إنما غرضه المدافعة لينتقض ما عقدنا من غرضنا ولا نتركه إلا اليـوم أو غدًا فقال بعضهم‏:‏ هذا لا يحسن ولكن كاتبوه ليقتصر على مدة قريبة فكاتبوه فأجـاب‏:‏ إذا قدرتـم مـدة قريبـة يمكـن إنجـاز أمـوري فـي مثلهـا وندبتـم من يكون في صحبتي وعينتم على اليوم الذي تختارونه لم أتأخر عنه فوصل الجواب وجمعهم أقل من كل يوم فوجمـوا وقـال بعضهـم لبعـض‏:‏ إذا خـرج فعلـى ما نعول بعده فكتبوا إليه قد شكرنا إنعام مولانا ونحن نسأل قبل الخروج أن يحلف لنا على صلاح النية وأن لا يريد بنا سوءًا أو يرتـب عندنـا أحـد الأمـراء الأصاغـر وأنفذ الملك في أثناء هذه المراجعات إلـى الأصاغـر يستميلهـم ويعدهـم وجـاءه بعضهـم ليـلًا فخاطبهم بما استصلحهم به فوعدوه فل هذه العزيمة وراسل كلًا من الأكابر وأراه سكونه إليه وتعويلـه عليـه والتمـس حاجـب الحجـاب منـه تجيـد اليمـن علـى سلامـة الاعتقـاد فيه وأن لا يستوزر أبا القاسم ففعل فاجتمعوا في مسجد القهرمانة وقال بعضهم لبعـض‏:‏ جلـال الدولـة ملكنا ونحن جنده وباكروا دار المرتضى ودخلوا إلى الملك وقبلوا الأرض بين يديه واستصفحوا عما جرت الهفوة فيه وسألوه العود إلى داره فركب معهم إلى دار المرتضى التي بناها على شاطئ دجلة وسكنت الثائرة ورضوا بالوزيـر أبـي القاسـم وأقـام جلـال الدولـة مكانـه حتـى تكرر سؤالهم فعبر إلى داره‏.‏

وفـي هـذه الأيـام‏:‏ تبسـط العامـة وانتشـر العيـارون وقتلـوا وتـرددوا فـي الكـرخ حامليـن السلـاح‏.‏

وتبعهم أصاغر المماليك ومضت الأيام على كبس المنازل ليلًا والاستقفاء نهارًا فعظمت المحنة وتعدوا إلـى الجانـب الشرقـي ففسـد ووقـع بيـن عوامـه مـن أهل باب الطاق وسوق يحيى قتال اتصل وهلك فيه جماعة فاجتمع الوزير وحاجب الحجاب على تدبير الأمور وقلد أبا محمد ابن النسوي البلد وضم إليه جماعة فطلب العيارين وشردهم ثم قتل رفيق لابن النسوي فخاف واستتر وخـرج عـن البلـد‏.‏

فعـاد الأمـر كمـا كـان وكبـس البرجمـي دارًا فـي ظهـر دار المرتضـى في ليلة الثلاثاء فلما كان يوم الجمعة‏:‏ ثار العوام في جامع الرصافة ومنعوا من الخطبة ورجموا القاضي أبـا الحسـن بـن العريـف الخطيـب وقالـوا‏:‏ إن خطبـت للبرجمـي وإلا فلا تخطب لخليفة ولا لملك‏.‏

ثم أقيم علـى المعونـة أبـو الغنائـم بـن علـي فركـب وطـاف وقتـل فوقعـت الرهبة ثم عاد واتفق أن بعض القواد أخذ أربعة من أصحاب البرجمي فاعتقلهم فأخذ البرجمـي أربعـة مـن أصحـاب ذلـك القائـد وجاء بهم وأقبل إلى دار القائد فطرق عليه الباب فخرج فوقف خلف الباب فقال له‏:‏ قد أخـذت أربعـة مـن أصحابـك عوضـًا عمـن أخذتـه مـن أصحابي فإما أن تطلق من عندك لأطلق من عندي وإما أن أضرب رقابهم وأحرق دارك وانصرف وشأنـك ومـن عنـدك فسلـم القـوم إليـه ومما يشاكل هذا الوهن أن أحد وجوه الأتراك بسوق يحيى أراد أن يختن ولدًا له فأهدى إلى البرجمي حملانًا وفاكهة وشرابًا وقال‏:‏ هذا نصيبك من طهر فلان ولدي واستذم منهم على داره‏.‏

وتأخر ورود الحاج الخراسانية في هذه السنة وتأخر المصريون خرفًا من البادية وخـرج أهـل البصرة فخفروا فغدروا بهم ونهبوهم وارتهنوهم‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

ابن السماك ولد سنة ثلاثين وثلثمائة وحدث عن جعفر الخلدي وغيره وكان يعظ بجامع المنصور وجامع المهدي ويتكلم على طريقة التصوف‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين قال‏:‏ حكى لي أبو محمد التميمي أن أبا الحسين بن السماك الواعظ دخل عليهم يومًا وهم يتكلمون في أبابيل فقال‏:‏ لا ألف وصل ولا ألف قطع وإنما ألف سخط ألا ترى أنه بلبل عليهم عيشهم‏.‏

فضحك القوم من ذلك‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال‏:‏ قال لي أبو الفتح محمـد بـن أحمـد المصري‏:‏ لم أكتب ببغداد عمن أطلق عليه الكذب غير أربعة منهم أبو الحسين بن السماك‏.‏

توفي في ذي الحجة من هذه السنة ودفن في مقبرة باب حرب‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها‏:‏ عود العيارين إلى الانتشار ومواصلة الكبسات بالليل والنهار ومضى البرجمي إلى العامل على المأصـر الأعلـى بقطيعـة الدقيـق فقـرر معـه أن يعطيـه في كل شهر عشرة دنانير من الارتفاع ويطلقوا لـه سميريتيـن كبيرتيـن بغيـر اعتـراض وأخـذ عهده على مراعاة الموضع وواصل البرجمي محال الجانب الشرقي حتى خرب كثير منه ودخل خان القوارير بباب الطاق فأخذ منه شيئًا عظيمًا وعبر إلـى الجانـب الغربـي وطلـب درب الزعفرانـي‏.‏

فمنع أصحابه عن نفوسهم وتحارس الناس واجتمعوا طول الليل في الدروب وعلى السطوح ثم جد الخليفة والسلطان في طلب العيارين‏.‏

وورد كتاب من الموصل ذكر فيه أن ريحًا سوداء هبت بنصيبين فقلعت من بساتينها أكثر من مائتي أصل توتًا وعنابًا وجوزًا ودحت بها على الأرض خطوات وأنه كان في بعض البساتين قصـر مبنـي بآجـر وحجـارة وكلـس فرمتـه مـن أصلـه ومطـر البلد بعد ذلك مطرًا وقع معه برد كبار في أشكال الأكف والزنود والأصابع وورد الخبر بأن البحر في تلك الوساحل جزر نحو ثلاثة فراسخ وخرج الناس إلى ما ظهر من الأرض يبتغون السمك والصدف فجاء الماء وأخذ قومًا منهم‏.‏

وكان بالرملة زلازل خرج الناس منها بأولادهم وحرمهم وعبيدهم إلى ظهر البلد فأقاموا ثمانية أيام وهدمت تلك الزلزلة ثلث البلد تقديرًا وقطعت المسجد الجامع تقطيعًا وأهلكت من الناس قومًا وتعدت إلى نابلس فسقط نصف بنيانها وتلف ثلثمائة نفـس مـن سكانهـا وقلبـت قريـة بإزائها فخاست بأهلها وبقرها وغنمهم وخسف بقرى أخر وسقط بعض حائط بيت المقدس ووقع من محراب داود عليه السلام قطعة كبيرة ومن مسجد إبراهيم عليه السلام قطعة إلا أن الحجرة سلمت وسقطت منارة المسجد الجامع بعسقلان ورأس منارة غزة‏.‏

واتفـق فـي هـذا الوقـت كثرة الموتان ببغداد لا سيما في النساء وكان معظمه بالخوانيق وكان مثل ذلك بالموصل‏.‏

واتصـل الخبـر بما كان بنواحي فارس وشيراز من الموت حتى كانت الدور تسد على أصحابها وأن الفأر متن في الدور‏.‏

ثـم عـاد العيـارون فظهـروا ثـم بذلـوا حفـظ البلـد ولـزوم الاستقامـة فأفرقوا على ذلك وفسح لهم في جباية ما كان أصحاب المسالح يجبونه من الأسواق وأعطوا ما كان لصاحب المعونة من ارتفاع المواخير والقيان وكان يخاطبون بالقواد‏.‏

وفـي هـذا الأوان خاطب الدينوري الزاهد الملك في إزالة ضرائب الملح وأعلمه ما يتطرق على النـاس مـن الـأذى بذلك فأمر بذلك وكتب منشور وقرئ في الجوامع وكتب على أبوابها بلعن من يتعرض لإعادة هذه الجباية وكانت جارية في الخاص وارتفاعها نحو ألفي دينار في كل سنة‏.‏

ثم عاد أمر العيارين فانتشروا واتصلت الفتن بأهل الكرخ مع أهل باب البصرة والقلائين وأهل باب الطاق مع أهل سوق يحيى وأهل نهر طابق مع أهل الارحاء وباب الدير ثم انضاف إلى ذلـك قتـال جـرى بين الطائفتين من الأتراك وكثر قتل النفوس ولم يقدر أحد على جناية أو يؤخذ بقود وانتشرت العرب ببادرويا وقطربل فنهبوا النواحي وساقوا المواشي وقطعوا الطريق وبلغوا إلى أطراف بغداد حتى وصلوا إلى جامع المدينة وسلبوا النساء ثيابهن في المقابر‏.‏

ثـم عـاد الجنـد إلـى التشغيـب وقالـوا‏:‏ قـد كـان قـررت لنـا أمـور مـا نـرى لهـا أثـرًا ثم أدخلوا أيديهم في الأمـوال وخـاص السلطـان وقـدروا ارتفـاع ذلـك فكـان أربعـة وخمسيـن ألـف دينار سابورية وفتحـوا الجوالـي وطالبـوا أهـل الذمـة بهـا وخاضوا في أمر دار الضرب وإقامة صاغة فيها وفسروا متاعًا ورد من الموصل واستوفوا ضرائبه‏.‏

وفـي أول رمضان عمل ابنا الأصبهاني العياران اللذان كانا تابا وحصلا في دار المملكة وخدما فـي جملـة فراشيهـا ومـن فـي جملتهـا من العيارين مجانيق مذهبة للخروج إلى زيارة قبر مصعب بن الزبيـر مقابلـة لما عمله عيارو الكرخ في النصف من شعبان من مثلها للخروج إلى زيارة المشهد بالحائر ورفعوها وطافوا بالأسواق بها وبين أيديهم البوقات ووقفوا بـإزاء دار المملكـة ومعهـم لفيـف كثيـر ودعـوا للسلطـان وأحـدث ذلـك وقـوع القتـال بيـن هـذه الطائفـة وبيـن أهل الكرخ على باب درب الديـزج وفـي القلائيـن والصفاريـن وعنـد القنطرتيـن وعظمـت الفتنـة واعتـرض كل فريق على من يجتـاز من أهل محال الفريق الآخر وقتلت النفوس وأخذت الأموال ومنع أبناء الأصفهاني من حمل الماء من دجلة إلى الكرخ ورواضعه حتى تأذى الناس بذلك ولحقتهم المشقة وبيعت الراوية بدرهمين وثلاثة ثم توسط الأمر بين الفئتين فاصطلحتا‏.‏

وفي ليلة الأحد سادس عشر رمضان‏:‏ غرق البرجمي اللص بفم الدجيل أخذه معتمد الدولة فغرقـه بعـد أن بـذل مـالًا كثيـرًا علـى أن يتـرك فلـم يقبـل منـه ثم دخل أخو البرجمي إلى بغداد فأخذ أختًا له من سوق يحيى وخرج فتبع وقتل‏.‏

وفي يوم السبت ثالث عشر شوال‏:‏ روسل المرتضى بإحضار العيارين إلى داره وأن يقول لهم‏:‏ من أراد منكم التوبة قبلت توبته وأقر في معيشته ومن أراد خدمـة السلطـان استخـدم مـع صاحب البلد ومن أراد الانصراف عن البلد كان آمنًا على نفسه ثلاثة أيام‏.‏

فعـرض ذلـك عليهم فقالوا‏:‏ نخرج فخرجوا وتجدد الاستفقاء والفساد وقلد أبو محمد ابن النسوي المعونة لسكون أهل الكرخ إليه ثم خاف فاستعفى وأظهر التوبة ورد أبو الغنائم بن أبي علي وقد حصلت له هيبة شديدة‏.‏

وفي ليلة الأربعاء لسبع بقين من ذي القعدة انقض شهاب كبير هال منظره فلما جاءت ليلة الجمعة وقت العتمة انقض شهاب كأعظم ما يكون من البرق حتى ملأ ضوءه الأرض وغلب ضوؤه المشاعل وروع من رآه وتطاول مكثـه مـن وقـت انقضاضـه إلـى وقـت انغضاضـه زيـادة على ما جرت به عادة أمثاله وقال من لا يعلم‏:‏ ان السماء انفرجت لعظم ما شهدوا وفي ذي الحجة وقع الموت فذكر أنه مات في بغداد سبعون ألفًا‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب

أبو بكر الخوارزمي البرقاني ولـد سنـة سـت وثلاثين وثلثمائة ورحل إلى البلاد وسمع بها الكثير وكتب الكثير وانتقل من دار إلـى دار فنقـل كتبـه في ثلاثة وستين سفطًا وصندوقين وكان إمامًا ثقة ورعًا متقنًا متثبتًا فهمًا حافظًا للقرآن عارفًا بالفقه والنحو وصنف في الحديـث تصانيـف وكـان الأزهـري يقـول‏:‏ إذا مات البرقاني ذهب هذا الشأن وقيل له‏:‏ هل رأيت أنفس منه قال‏:‏ لا‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال‏:‏ سمعت أبا محمد الخلال ذكر البرقاني فقـال‏:‏ كـان نسيـج وحـده‏.‏

قـال ابـن ثابـت‏:‏ وحدثنـي محمـد بن يحيى الكرماني الفقيه قال‏:‏ ما رأيت في أصحاب الحديث أكثر عبادة من البرقاني‏.‏

أخبرنـا القزاز أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ قال لي محمد بن علي الصوري‏:‏ دخلت على البرقاني قبل وفاته بأربعة أيام أعوده فقال لي‏:‏ هذا اليوم السادس والعشرين من جمادى الآخرة وقد سألت الله تعالى أن يؤخر وفاتي حتى يهل رجب فقد روي أن لله فيه عتقاء من النار عسى أن أكون منهم‏.‏

قال الصوري‏:‏ وكان هذا القول يوم السبت فتوفي صبيحة يوم الأربعاء مستهل رجب‏.‏

أخبرنا القزاز أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال‏:‏ مات البرقاني يوم الأربعاء أول يوم من رجب سنة خمس وعشرين وأربعمائة ودفن في مقبرة الجامع مما يلي باب سكة الخرقي‏.‏

أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن سعيد أبو العباس الأبيوردي أحـد فقهـاء الشافعيين من أصحاب أبي حامد الاسفرائيني سكن بغداد وولي القضاء بها على الجانـب الشرقـي ومدينـة المنصـور فـي أيـام ابـن الأكفاني ثم عزل وكان يدرس في قطيعة الربيع وله حلقة الفتوى في جامع المنصور وقد سمع الحديث ورواه وكان حسن الاعتقاد جميل الطريقة فصيح اللسان يقول الشعر وكان صبورًا على الفقر كاتمًا له‏.‏

أخبرنـا عبـد الرحمـن بـن محمـد أخبرنا أحمد بن ثابت قال‏:‏ ذكر لي عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي عمن حدثه أن القاضي أبا العباس الأبيوردي كان يصوم الدهر وأن غالب أفطاره كان على الخبز والملح وكان فقيرًا يظهر المروءة ومكث شتوة كاملة لا يملك جبة يلبسها وكان يقول لأصحابه‏:‏ بي علة تمنعني من لبس المحشو فكانوا يظنونه يعني بذلك الفقر ولا يظهره تصونًا‏.‏

توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة‏.‏

ودفن في مقبرة باب حرب‏.‏

الحسن بن عبيد الله بن يحيى أبو علي البندنيجي الفقيه الراضي سكن بغداد ودرس فقه الشافعي على أبي حامد الاسفرائيني ولم يكن في أصحابه مثلـه وكـان لـه حلقـة فـي جامـع المنصـور للفتوى وكان صالحًا دينًا ورعًا وتوفي في جمادى الآخرة من هذه السنة‏.‏

عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد أبو الفرج التميمي ولـد سنـة ثلـاث وخمسين وثلثمائة وسمع من أبيه وغيره وكان له في جامع المنصور حلقة للوعظ والفتوى على مذهب أحمد بن حنبل‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز أخبرنا أبو بكر بن ثابت حدثنا عبد الوهاب بن عبد العزيـز بـن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أكينة بن عبد الله التميمـي قـال‏:‏ سمعـت أبـي يقـول‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سمعت أبـي يقول‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام وقد سئل عن الحنان المنان فقال‏:‏ الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه والمنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال قال‏:‏ الخطيب بين أبي الفرج وبين علي تسعة آباء آخرهم أكينة توفي عبد الوهاب في ربيع الأول من هذه السنة ودفن عند قبر أحمد‏.‏

رضي الله عنه‏.‏

محمد بن الحسن بن علي بن ثابت بن أحمد أبو بكر النعماني ولـد فـي سنـة تسع وأربعين وثلثمائة وسمع من أحمد بن سندي وغيره وكان سماعه صحيحًا‏.‏

توفي ليلة الخميس رابع جمادى الأولى من هذه السنة ودفن في مقبرة باب الدير وكان صدوقًا ثقة‏.‏